فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)}.
والسِّر كما نعلم هو ما حبْسته في نفسك، أو ما أسررْتَ به لغيرك، وطلبتَ منه ألاَّ يُعلِمه لأحد، والحق سبحانه يعلم السِّر، بل يعلم ما هو أَخْفى فهو القائل: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7].
أي: أنه يعلم ما نُسِره في أنفسنا، ويعلم أيضًا ما يمكن أن يكون سِرًا قبل أن نُسِرَّه في أنفسنا، وهو سبحانه لا يعلم السِّر فقط؛ بل يعلم العَلَن أيضًا.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)}.
أي: أنهم لا يستطيعون أنْ يخلقوا شيئًا؛ بل هم يُخْلقون، والأصنام كما قُلْنا هي أدنى مِمَّنْ يخلقونها، فكيف يستوي أنْ يكونَ المعبود أَدْنى من العابد؟ وذلك تسفيهٌ لعبادتهم.
ولذلك يقول الحق سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام لحظةَ أنْ حطَّم الأصنام، وسأله أهله: مَنْ فعل ذلك بآلهتنا؟ وأجاب: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} [الأنبياء: 63].
فقالوا له: إن الكبير مجرَّد صنم، وأنت تعلم أنه لا يقدر على شيء.
ونجد القرآن يقول لأمثال هؤلاء: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
فهذه الآلهة إذن لا تخلق بل تُخلق، ولكن الله هو خالق كل شيء، وسبحانه القائل: {يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73].
ويذكر الحق سبحانه من بعد ذلك أوصاف تلك الأصنام: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء}.
وهم بالفعل أموات؛ لأنهم بلا حِسٍّ ولا حركة، وقوله: {غَيْرُ أَحْيَاء} [النحل: 21].
تفيد أنه لم تكُنْ لهم حياة من قَبْل، ولم تثبت لهم الحياة في دورة من دورات الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
وهكذا تكتمل أوصاف تلك الأصنام، فهم لا يخلقون شيئًا، بل هم مخلوقون بواسطة مَنْ نحتُوهم، وتلك الأصنام والأوثان لن تكون لها حياة في الآخرة، بل ستكون وَقُودًا للنار.
والحق سبحانه هو القائل: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22].
وبطبيعة الحال لن تشعرَ تلك الحجارةُ ببعْث مَنْ عبدوها. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)}.
لما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات، أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء} أي: من جهة السماء، وهي السحاب {مَاء} أي: نوعًا من أنواع الماء، وهو المطر {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} يجوز أن يتعلق {لكم} ب {أنزل} أو هو خبر مقدّم، وشراب مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لماء، {وَمِنْهُ} في محل نصب على الحال، والشراب: اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم، والمعنى: أن الماء النازل من السماء قسمان: قسم يشربه الناس، ومن جملته ماء الآبار والعيون، فإنه من المطر لقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض} [الزمر: 21]، وقسم يحصل منه شجر ترعاه المواشي.
قال الزجاج: كل ما ينبت من الأرض فهو شجر، لأن التركيب يدل على الاختلاط، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق.
وقال ابن قتيبة: المراد من الشجر في الآية الكلأ، وقيل: الشجر: كل ماله ساق كقوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].
والعطف يقتضي التغاير، فلما كان النجم ما لا ساق له، وجب أن يكون الشجر ماله ساق، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز {فِيهِ تُسِيمُونَ} أي: في الشجر ترعون مواشيكم، يقال: سامت السائمة تسوم سومًا رعت فهي سائمة، وأسمتها، أي: أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة، وأصل السوم: الإبعاد في المرعى.
قال الزجاج: أخذ من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها.
{يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} قرأ أبو بكر عن عاصم: {ننبت} بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، أي: ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء، وقدّم الزرع لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس، وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداما من وجه لكثرة ما فيه من الدّهن، وهو جمع زيتونة.
ويقال للشجرة نفسها: زيتونة.
ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال: {وَمِن كُلّ الثمرات} كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقرأ أبيّ بن كعب {ينبت لكم به الزرع} يرفع الزرع وما بعده {إِنَّ في ذَلِكَ} أي: الإنزال والإنبات {لآيَةً} عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرّد بالربوبية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته.
{وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار} معنى تسخيرهما للناس: تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم، يتعاقبان دائمًا، كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه.
وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم، فإنها تجري على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان.
ومعنى مسخرات: مذللات.
وقرأ ابن عامر وأهل الشام: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات} بالرفع على الابتداء والخبر.
وقرأ الباقون بالنصب عطفًا على {الليل والنهار}، وقرأ حفص عن عاصم برفع {النجوم} على أنه مبتدأ وخبره {مسخرات بِأَمْرِهِ} وعلى قراءة النصب في مسخرات يكون حالًا مؤكدة، لأن التسخير قد فهم من قوله: {وَسَخَّرَ}؛ وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مسخرات، {إِنَّ في ذَلِكَ} التسخير {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرّده، وعدم وجود شريك له.
وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.
وجمعها ليطابق قوله: {مسخرات}؛ وقيل: إن وجه الجمع هو أن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها، بخلاف ما تقدّم من الإنبات، فإنه آية واحدة، ولا يخلو كل هذا عن تكلف، والأولى أن يقال: إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار، وللإفراد باعتبار، فلم يجرها على طريقة واحدة افتنانًا وتنبيهًا على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما.
{وَمَا ذَرَأَلَكُمْ في الأرض} أي: خلق يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءًا: خلقهم، فهو ذارىء، ومنه الذرّية، وهي: نسل الثقلين، وقد تقدّم تحقيق هذا، وهو معطوف على النجوم رفعًا ونصبًا، أي: وسخر لكم ما ذرأ في الأرض.
فالمعنى: أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية.
وانتصاب {مختلفًا ألوانه} على الحال، و{ألوانه} هيئاته ومناظره، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكلّ في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرّده {إِنَّ في ذَلِكَ} التسخير لهذه الأمور {لآيَةً} واضحة {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فإن من تذكر اعتبر، ومن اعتبر، استدلّ على المطلوب، قيل: وإنما خصّ المقام الأوّل بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة.
وخصّ المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة، وإراحة العلة، فمن لم يعترف بعدها بالوحداينة فلا عقل له.
وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة.
فمن شك بعد ذلك، فلا حسّ له.
وفي هذا من التكلف ما لا يخفى.
والأولى: أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدّم في إفراد الآية في البعض، وجمعها في البعض الآخر.
وبيانه أن كلا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر، ولذكر التعقل، ولذكر التذكر، لاعتبارات ظاهرة غير خفية.
فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة.
{وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر} امتنّ الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الربّ سبحانه وكمال قدرته، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوّعة المختلفة الأمكنة إتمامًا للحجة، وتكميلًا للإنذار، وتوضيحًا لمنازع الاستدلال، ومناطات البرهان، ومواضع النظر والاعتبار، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا} المراد به: السمك، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي: لؤلؤًا ومرجانًا كما في قوله سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وظاهر قوله: {تَلْبَسُونَهَا} أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي: يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله: {تَلْبَسُونَهَا} بقوله تلبسه نساؤهم، لأنهنّ من جملتهم، أو لكونهنّ يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلاّ النساء خاصة، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهًا بهنّ، وقد ورد الشرع بمعنه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان.
{وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} أي: ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها.
ومخر السفينة: شقها الماء بصدرها.
قال الجوهري: مخر السابح: إذا شقّ الماء بصدره، ومخر الأرض: شقها للزراعة، وقيل: مواخر جواري، وقيل: معترضة.
وقيل: تذهب وتجيء، وقيل: ملججة.
قال ابن جرير: المخر في اللغة: صوت هبوب الريح، ولم يقيد بكونه في ماء {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} معطوف على {تستخرجوا}، وما بينهما اعتراض، أو على علة محذوفة تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا أي: لتتجروا فيه، فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم، اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان.
قيل: ولعلّ وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعًا لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر، بل من غير حركة أصلًا مع أنها في تضاعيف المهالك، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له.
ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد، المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى، فقال: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ} أي: جبالًا ثابتة، يقال: رسا يرسو: إذا ثبت وأقام، قال الشاعر:
فصبرت عارفة لذلك حرة ** ترسو إذا نفس الجبان تطلع